بودابست… انطباعات زائر (الحلقة الرابعة)

بودابست… انطباعات زائر (الحلقة الرابعة)

قبل 11 ساعة
بودابست… انطباعات زائر (الحلقة الرابعة)
د .عبدالقادر المحوري

 

لا تَعُد… فالمكان لم يَعُد كما كان

 

في لحظةٍ ما، يراودك الحنين إلى مكان كنت فيه سعيدًا ذات يوم. تستيقظ فيك الذكريات كما تستيقظ الأزهار بعد المطر، فتظن أن العودة إليه ستمنحك الدفء ذاته، والبسمة ذاتها، وربما شيئًا من السكينة التي افتقدتها. لكن الحقيقة المؤلمة هي أن الحنين فخّ، وأن ما تحنّ إليه ليس المكان، بل الزمن… وتلك النسخة القديمة من نفسك التي عاشت هناك.

فالمكان الذي كان يحتضن ضحكاتك، لم يَعُد كما كان.
والوجوه التي كانت تُرحّب بك، قد غيّرتها الأيام.
بل أنت نفسك، لم تَعُد كما كنت.

كم من مرة عدنا إلى ركنٍ منسيٍّ في حارتنا القديمة، أو مقهى ارتشفنا فيه أول قهوة حب، أو شاطئٍ دفنّا فيه أسرار المراهقة؟ وكم من مرة اكتشفنا أن الصورة التي حملناها في ذاكرتنا، كانت أكثر صدقًا من الواقع الذي عدنا إليه؟
 

الزمن لا يُبقي شيئًا على حاله. إنه لئيمٌ بطبعه، لا يكتفي بأخذ الأحبّة وتبديل الأماكن، بل يُبدّلنا نحن أيضًا من الداخل. يمرّ بنا كما تمرّ السنين على الجدران، فتقشر طبقات الحنين وتكشف الواقع كما هو: باهتًا، صامتًا، مُغايرًا لما كان.

إن العودة إلى أماكن الفرح القديم ليست سوى محاولة يائسة لسرقة لحظة من ماضٍ لن يعود.
فلا تحاول أن تبحث عن الوجوه ذاتها، ولا عن التفاصيل التي سكنت قلبك يومًا، فلن تجدها.
الأماكن تُشيخ كما البشر، والسعادة لا تتكرّر مرتين في المكان نفسه.

حاولتُ خلال زيارتي الأخيرة إلى بودابست  ولقاءي بأخي العزيز الدكتور احمد باقيس حينها   أن أستعيد شيئًا من الماضي، من ذكريات خلت، ولكن الحقيقة المؤلمة كانت أن كل ما أحاول الإمساك به لم يكن سوى سراب. لم تكن الأماكن وحدها قد تغيّرت، بل إن الرفقة الذين كانوا معي – وهم من صنعوا تلك الذكرى وتلك الأيام الخوالي – غابوا، فغابت معهم الروح التي كانت تسكن الزمان والمكان


ما كان جميلاً، دعه يبقى كذلك… في الذاكرة.
احتفظ بصورته كما كانت، نقيّة، دافئة، مكتملة.
لا تشوشها بمحاولة إحيائها خارج إطار الزمن الذي وُلدت فيه.

التعليقات

الأكثر قراءة

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر