اللغة المهرية ليست مجرد وسيلة تواصل منطوقة، بل هي تاريخ حيّ ينبض في وجدان أبناء الجنوب، وامتداد لحضارة ضاربة في عمق الزمن. هي ليست لغة محلية معزولة، بل هوية متكاملة، تعكس التنوع الثقافي والخصوصية التي تميّز محافظاتنا الجنوبية. لطالما قاومت هذه اللغة محاولات الطمس والتهميش، وبقيت حيّة في القلوب وعلى الألسنة، بفضل تمسك أهلها بها، وإدراكهم العميق لقيمتها كرمز للانتماء والاعتزاز. منذ ما بعد الوحدة في 1990، شهدت اللغة المهرية تضييقًا متعمدًا، ضمن سياسة ممنهجة لطمس الهويات المحلية وإذابة التعدد في بوتقة واحدة. لكن أبناء المهرة أثبتوا أن الهوية لا تُمحى بمرسوم سياسي، ولا تُنسى مع الزمن، بل تُنقل من جيل إلى جيل، وتُصان بالعزيمة والوعي. وما تزال المهرة حتى اليوم، تُعد من أبرز مناطق الجنوب التي حافظت على لغتها الأم، وجعلتها جزءًا من الحياة اليومية، والشعور الجمعي، والانتماء الحضاري. اللغة المهرية اليوم، رغم أنها غير مكتوبة، إلا أنها تتمتع بثراء لغوي فريد، فهي تحتوي على جميع حروف اللغة العربية، بالإضافة إلى ثلاثة حروف أخرى مميزة، تجعل منها واحدة من أقدم اللغات السامية الحيّة. تحمل في طياتها قصص الأجداد، وأناشيد الأرض، وحكايات البحر والصحراء، وتُعد سجلًا شفهيًا حافلًا بالتاريخ الشفوي الجنوبي، الذي ما زال ينتظر التوثيق والتدوين. ولعل الاعتراف الرسمي بها في مخرجات الحوار الوطني الجنوبي، خاصة في المادة 23، هو خطوة كبيرة نحو ترسيخ الاحترام الثقافي والتنوع الهوياتي. هذا الاعتراف لم يكن مجرد بند قانوني، بل انعكاس لرؤية سياسية ناضجة تؤمن بأن الجنوب الجديد، القادم، لا يمكن أن يقوم إلا على أساس فدرالي، يحترم كل خصوصية، ويمنح كل منطقة حق التعبير عن ذاتها، بلغتها وثقافتها وتاريخها. إن الاحتفال بيوم اللغة المهرية لا يجب أن يُختزل في مناسبة رمزية، بل هو فعل مقاومة ثقافية، ورسالة وفاء، وتجديد للعهد مع تراثنا العميق. هذا اليوم، هو تذكير بأننا كجنوبيين، لا ندافع فقط عن حدود أرض، بل عن معالم هوية، ومكونات وجدان، ولغات تحفظ أرواح الشعوب من الذوبان في المجهول. وربط هذا اليوم بذكرى ثورة 14 أكتوبر ليس عبثًا، بل تأكيد على أن النضال من أجل الحرية لا ينفصل عن النضال من أجل الهوية. إن محافظة المهرة تمثل اليوم عمقًا استراتيجيًا وثقافيًا للجنوب، لا يمكن تجاوزه، ولا يُمكن بناء أي مشروع وطني بدون احتضانها الكامل، بلغتها وتاريخها وأهلها. وكما أن الجغرافيا لا تكتمل بدون المهرة، فإن الهوية الجنوبية لا تكتمل بدون لغتها المهرية، تلك التي قاومت النسيان، وبقيت حيّة في تفاصيل الحياة اليومية، في الأغاني، في القصائد، في الأمثال، وفي ذاكرة كبار السن. علينا أن نمضي بخطوة جدية نحو توثيق اللغة المهرية، وجعلها جزءًا من المناهج التعليمية، وإنشاء مراكز بحثية تُعنى بدراستها، وتسجيل مفرداتها وقواعدها، قبل أن يطالها النسيان. إن بقاءها في الإطار الشفهي يُعرضها لخطر الاندثار، لذلك فإن التدوين هو أولوية ثقافية ووطنية في هذه المرحلة. في مشروع استعادة الدولة الجنوبية، تبرز اللغة المهرية ليس فقط كقضية ثقافية، بل كرمز من رموز الأصالة والعمق التاريخي. اللغة، كما الأرض، تُشكّل وجدان الإنسان، وهي جزء من معركته من أجل الكرامة والاستقلال. لذلك، فإن احترام هذه اللغة هو احترام للجنوب نفسه، بكل ما يحمله من تنوع، وكل ما يحتويه من غنى. إن أحد أبرز ملامح رؤية المجلس الانتقالي الجنوبي هو تأكيده على احترام الهويات والخصوصيات الثقافية للمحافظات كافة، واللغة المهرية خير مثال على هذا التوجه. فقد تم الاعتراف بها، والحديث عنها في الوثائق الرسمية، والمطالبة بجعلها حاضرة في الحياة العامة، وهذا هو الطريق الصحيح لبناء دولة تحترم ذاتها وشعبها. في النهاية، لا يمكن لأي شعب أن ينهض دون أن يعرف تاريخه، ويحترم لغته، ويصون تراثه. واللغة المهرية ليست مجرد لغة يتحدث بها أهل المهرة، بل هي لسان من ألسنة الجنوب، وصوت من أصوات تاريخه العريق. وكل حرف فيها هو قصة تستحق أن تُروى، وكل كلمة هي جذر في أرض لا تنكسر.