في مشهدٍ يختزلُ المفارقةَ الأكثرَ إيلامًا والأشدَّ سخريةً، تتهادى مواكبُ الزيارات من رئيس مجلس القيادة إلى رئيس الحكومة ومعهم ثلة من القادمين والبعض المنتظرين الحاهزين بأرقى البدلات والكرفتتات إلى جوهرة الجنوب (عدن) كأنما أتوا لاستعادة ذكريات الماضي المجيد، لا لإنقاذ حاضرٍ يئنُّ تحت وطأةِ حرٍّ يُذيبُ الصخرَ، ويُذري الأرواحَ قبل الأجساد! وغلاء يغلى الأمعاء قبل الاجساد، فبينما نسمع التحضيرات في المعاشيق عن استعدادات كبيرة لاستقبال أكبر عدد من المصافحين لالتقاط الصور التذكارية في يوم العيد، بينما تتدفَّقُ من أفواه الأهالي زفراتٌ ساخطة: أين الكهرباء؟ أين الماء؟ اين الرواتب؟ أين التعليم؟ أين حقوقنا التي ذابت كالسراب تحت شمسٍ لا ترحم؟! لقد جاء رئيسُ المجلس الرئاسي ورئيسُ الحكومة إلى عدن، لكنَّ خطواتهم لم تَخُطَّ نحو محطاتِ الكهرياء ولا آبار الماء ولا البنك المركزي للسؤال عن إمكانية صرف الرواتب، والسؤال عن معالجة حقة للانهيار، بل توقفوا عند حدود المشهد السياسي المصوَّر بعناية: تجهيز مسجدٌ يلمعُ تحت الأضواء، وصالةٌ تزينها الابتسامات المُعدة سلفًا للمصافحة، ثمَّ يغادرون.. تاركين وراءهم مدينةً تختنقُ، وشعبًا يتساءل: هل نحن مجرد ديكورٍ لاستكمال المشهد؟! يا للسخريةِ المُرّة! فعدنُ التي كانت مهدَ الشرعية، والتي لا تزال تُمسكُ بجمرةِ المقاومة في وجه كلِّ غازٍ، تُعامَلُ كخلفيةٍ عابرةٍ في فيلمٍ سياسي! ألم يدركوا أنَّ وجودَهم السياسيَّ ما كان ليكتملَ لولا دماءُ أبناء محافظة عدن والمحافظات المحيطة بها لتكون نواة حقيقة لشرعيتهم؟! واليوم عدن تُنزفُ دمًا عَبرَ شوارعها المكسورة، بينما تُرفعُ في عواصمِ إقامتهم نخبُ النجاح! فهل يعلمُ من يزورونها اليومَ أنَّ أطفالَها ينامون على أصواتِ مولداتٍ تئنُّ من الإرهاق؟ أنَّ أمهاتها يُناضلنَ من أجلِ قطرةِ ماءٍ تساوي ذهبًا وراتبًا لا يساوي فطور أسبوع؟ وأنَّ العملةَ الوطنيةَ تتهاوى كجسدٍ مقطوعِ الرأس؟! والحالة الاقتصادية تذبح المواطن المغلوب من الوريد إلى الوريد. أيُّ عيدٍ هذا الذي يُحتفلُ به في المدينةِ التي تحوَّلت إلى فرنٍ كبير؟! أيُّ فرحٍ يُرادُ تصويره بين جدرانٍ يكسوها العرقُ واليأس؟! ومن هنا يتساءل الكل في عدن والمحافظات الأخرى هذا السؤال في الجنوب: هل نحن بشرٌ أم أرصدةٌ سياسية؟ لا يطلبُ أبناءُ عدن والمحافظات المحررةِ المعجزاتِ، بل يطالبون بحقٍّ إنسانيٍّ بسيط: الحياة الكريمة، فلماذا يُنظرُ إليهم كأرقامٍ في جداولَ ماليةٍ، أو كوقودٍ للمعاركِ التي لا تنتهي؟! ولماذا تُختزلُ أحلامُهم في وعودٍ تتبخرُ مع آخرِ ضوءٍ للكاميرات؟! اليومَ، يقفُ الجنوبُ أمام معركة بقاء كبيرة: إمَّا أن تُستعاد كرامتُه بإصلاحٍ جذريٍّ يُعيدُ الكهرباءَ إلى العقولِ قبلَ البيوت، والماءَ إلى القلوبِ قبلَ الصنابير، وإمَّا أن يُتركَ لأهله أن يعيدوا مجده وينهوا العبث الحاصل عليه من شرعية غرضها التصوير لا التطوير قبل أن يتحول الى كشجرةٍ جفتْ جذورها في أرضٍ قاحلة! وختامًا، يدوي إلى الأسماع هذا السؤال، إلى متى يبقى السكوتُ خيانة؟ عدنُ تنادي.. فهل من مُجيب؟ أم أنَّ الزيارة لرئيسي مجلس القيادة والحكومة ستؤول نهايتها بالعودة بهما إلى قصور الرياض ليُغنّوا للعالمَ عن إنجازاتٍ وهميةٍ، بينما تُدفنُ المدينةُ تحت ركامِ الإهمال والحر القاتل والجوع المخيف؟! اللهُ المُستعان.. فعدنُ لم تعدْ تحتملُ المزيدَ من الصور.. إنها تريدُ حياةً! يا رئيسي مجلس القيادة والحكومة! ولا تريد صور يوم العيد لتلتقط من كاميرات التصوير والعودة إلى حيث الجهة التي جئتم منها!.