عندما يتجاوز الطب حدود العلم المادي ليصير فنّاً للوجود الإنساني، وحين تتحول المهنة إلى كينونة أخلاقية، ندرك أننا أمام ظاهرة نادرة. الدكتور محمد هماش ليس اسماً في سجلّ الأطباء، بل هو مفهومٌ قائمٌ بذاته، فلسفةٌ علاجيةٌ تتجاوز الوصفات الطبية إلى معالجة الوجود الإنساني في أعمق تجلياته. إنه الطبيب الذي حوّل العيادة إلى محرابٍ للرحمة، والعلاج إلى طقسٍ من طقوس العطاء.
في عوالم الطب التي تتحول تدريجياً إلى آلات تشخيص صمّاء، يظل الدكتور هماش شاهداً على أن الطب لم يفقد بعدُ روحه. هنا، لا نجد طبيباً يمارس مهنته، بل إنساناً يمارس إنسانيته بكلّ أبعادها. إنه لا يكتفي بقراءة التحاليل، بل يقرأ في عيون الأطفال قصصاً من الخوف والأمل، ويستمع إلى دقات قلوبهم كما يستمع فيلسوف إلى نبض الوجود.
إنسانيته ليست شعاراً يُرفع، بل هي نسيجٌ يوميٌّ من الصبر الذي لا ينفد، والاهتمام الذي لا يعرف حدوداً. إنه يعالج الجسد بيد، ويمسح الدموع باليد الأخرى، وكأنه بهذا يشير إلى أن الطب الحقيقي هو ذلك الذي يتعامل مع الإنسان ككلٍّ غير قابل للتجزيء.
التفاني عند الدكتور هماش ليس مجرد ساعات عمل إضافية، بل هو نوع من الوجود المختلف. إنه يمارس ما يمكن تسميته بـ"الزمن العلاجي المقدّس"، حيث تتوقف ساعات العيادة عن الدوران وفقاً للوائح الإدارية، وتدور فقط وفقاً لرحمة الطبيب بمرضاه. إنه يخلق زمناً موازياً، زمناً لا تحكمه الدقائق والثواني، بل تحكمه حاجة المريض.
في هذا الزمن الخاص، يصبح الانتظار خارج العيادة ضرباً من العبث، لأن الطبيب هنا لا يقيس العلاقة بالمرضى بعدد الحالات التي أنهى تشخيصها، بل بمدى ما قدّمه من اطمئنان وسكينة. إنه يدرك أن بعض الكلمات الطبية قد تكون أهم من الأدوية، وأن نظرة العين قد تشفي أحياناً ما لا تشفيه الوصفات.
في عصر تحوّل فيه الطب إلى سلعة في سوق الاستهلاك، يقدم الدكتور هماش نموذجاً مختلفاً جذرياً. إنه لا يرى في المريض عميلاً، بل يرى في نفسه خادماً لهذه الرسالة السامية. تواضعه ليس تنازلاً عن الحقوق، بل هو ارتقاءٌ إلى مستوى الأخلاق التي تسبق كل اعتبار مادي.
إن فلسفته تقوم على أن الطب لا يمكن أن يكون مهنة ناجحة إذا لم يكن أولاً علاقة إنسانية ناجحة. فالمال قد يشتري الدواء، لكنه لا يشتري الطمأنينة، وقد يدفع ثمن الكشف الطبي، لكنه لا يدفع ثمن نظرة الحنان التي تذيب خوف الطفل. الدكتور هماش يعيش هذه الحقيقة يومياً، مما جعله أيقونةً للطبيب الذي لم ينسَ أن البشر قبل أن يكونوا مرضى، هم بشر.
الدكتور محمد هماش ليس مجرد حالة فردية تستحق الثناء، بل هو نموذج وأيقونة لما يجب أن يكون عليه الطب في صمته الجوهرية. إن وجوده يشكّل تحدّياً صامتاً لكل من حوّلوا المهنة إلى تجارة، وكل من نسوا أن الطب في أساسه علاقة بين إنسانين: أحدهما يحتاج إلى الشفاء، والآخر يحتاج إلى أن يكون أهلاً لتحقيق هذه المعجزة اليومية.
في النهاية، يبقى الدكتور هماش شاهداً على أن الإنسانية لم تنقرض بعد، وأن هناك أطباء ما زالوا يؤمنون بأن أعظم تشخيص يمكن أن يقدّمه الطبيب هو أن يقول للمريض: "أنت مهم، وسأكون معك حتى النهاية". هذه هي الفلسفة الحقيقية للطب، وهذا هو الدرس الأخلاقي الذي يقدمه لنا هذا الطبيب الفذ يومياً، ليس بالكلمات، بل بكل لحظة من لحظات وجوده المهني والإنساني.